تمخّض موقف العلاقات "الأمريكية-الإسرائيلية" عن أزمة حقيقية بين الإدارة الأمريكية وحكومة نتنياهو، وثمة مشهد درامي متصاعد يكشف عمّا يمكن وصفه بمواجهة دبلوماسية-سياسية بين الطرفين، وقد يُحدث هذا المشهد - عند البعض - إرباكا في تحليل الموقف، خصوصا مع الثابت السياسي المتعلق بحقيقة العلاقة المتينة بين أمريكا والكيان اليهودي، ويُبرز هذا التشابك السياسي حاجةً لكشف أسباب وخلفيات تردي العلاقة بين الإدارة الأمريكية الحالية وحكومة نتنياهو، مما يتناوله هذا المقال باقتضاب.
بداية، لا بد من التأكيد أن هذه "المواجهة" هي واقعية لا افتراضية، وهي ليست من نوع المواجهة الصورية التي روجها الإعلام حول الحالة السابقة للعلاقات الأمريكية-الإيرانية، والتي رفعت فيها إيران شعار "أمريكا الشيطان الأكبر" بينما ظلت تسند ذلك "الشيطان" في أفغانستان والعراق وسوريا، مما لا يتسع المقال للتدليل عليه.
وتظهر مؤشرات المواجهة الدبلوماسية-السياسية بين أمريكا وحكومة نتنياهو في مجموعة من الأخبار منها: الخبر الذي نشرته جريدة الجريدة الكويتية في 28/2/2015 من أن "أوباما هدد بإسقاط طائرات إسرائيلية خططت لضرب مواقع نووية إيرانية" وذلك عام 2014، ومنها خبر خطاب نتنياهو في الكونغرس الأمريكي، والذي اعتبره نتنياهو بالغ الأهمية من أجل منع إمكانية التوصل إلى اتفاق بين الدول الكبرى وإيران حول البرنامج النووي للأخيرة، بينما اعتبره دينيس روس المستشار السابق لأوباما "خطأ استراتيجيا"، ووجه روس نصيحة علنية لنتنياهو بإلغاء خطابه، ومعربا عن قلقه من إمكانية تدهور العلاقات بين إسرائيل والولايات المتحدة (صحيفة القدس في 28/2/2015).
وهذه ليست المرة الأولى التي تتأزم فيها العلاقة بين الإدارة الأمريكية وحكام الكيان الصهيوني من حزب الليكود، ومنهم نتنياهو على الوجه الخصوص، لذلك لا يمكن عزل سياق هذا التردي العلاقاتي عن سابقاته، ولا عن الذهنية الليكودية. بل يمكن وصفه وكأنه إعادة إنتاج لمشهد سابق، فيكون السرد "التاريخي" لما سبقه كأنه توصيف لهذا الواقع المتجدد.
تباين في الرؤى
يمكن إجمال خلفيات هذا التوتر القديم والتدهور العلاقاتي الجديد في نقطة مفصلية وهي تباين وافتراق الرؤية الصهيونية-التوسعية (الليكودية) للكيان اليهودي عن الرؤية الأمريكية التي تحصر الكيان ضمن حل الدولتين. ولذلك ظلت حكومات حزب الليكود (ومنها حكومة نتنياهو) رافضة لأي معنى من معاني الكيان الفلسطيني (كدولة). ومنذ نشأته عام 1973، رفع حزب الليكود شعارات أكثر تطرفا وتصريحا بالعدائية من منافسه في حينه (حزب العمل)، وذلك استنادا إلى نظرات توراتية، ولذلك ظلت دولة يهود رافضة لمبدأ الانسحاب الفعلي إلى حدود 1967، لأنها تعتبر فلسطين أرضا لليهود لا يجوز التخلي عنها.
لقد حدد نتنياهو رؤيته السياسية خلال مرحلة حكمه الجديدة (الحالية) بما ينسجم مع تلك الخلفية، وذلك ضمن خطابه الشهير في جامعة بار إيلان في 14/6/2009، حيث ركز فيه على السلام الاقتصادي (بما يضمن فتح الأسواق العربية، كمعنى من معاني التوسع اليهودي)، مع تطوير الحديث عمّا يشبه الدويلة الفلسطينية "منزوعة السلاح مع ترتيبات أمنية صلبة لدولة إسرائيل"، مؤكدا أن "الأماكن التي سار فيها إبراهيم... أرض آبائنا"، وأكد القول: "في رؤيتي للسلام يعيش في أرضنا الصغيرة شعبان حران جنبا إلى جنب"، وهو ما لا يتقبل معه رفع السيادة اليهودية عنها، بل اعتبر أن "الزعم بأن الانسحاب يجلب سلاما مع الفلسطينيين، أو على الأقل تقربه، هو زعم لم ينجح في اختبار الواقع"، ولم يغير العداء الأساسي، ولذلك حدد مطلبه بيهودية الدولة، ومن ثم قال فيه "هيا نبدأ بمفاوضات سلام فورية، من دون شروط مسبقة".
وتزاد أهمية استحضار هذه الرؤية، مع تصاعد مطالبات محمود عباس (كإملاءات أمريكية) - خصوصا خلال الأشهر الماضية - لاستجلاب قوات دولية (طرف ثالث لحفظ الأمن)، ومع أن ذلك توريط جديد لفلسطين في احتلال دولي، إلا أنه بالنسبة للكيان اليهودي انتقاص من السيادة اليهودية، ونوع من التخلي عن "أرض الآباء". وهو أمر يتطلب مزيدا من التشدد والعناد من قبل نتنياهو.
هذا من حيث الرؤية، أما من حيث الشرط، فقد وضع نتنياهو ذلك كله ضمن سياق التذكير بالتهديد النووي الإيراني إذ قال في خطابه المذكور: "منذ سنوات وأنا أعمل من دون كلل من أجل تشكيل جبهة عالمية ضد تزود إيران بسلاح نووي". وهو تذكير بنهج حكام الكيان اليهودي في التهرب من أية استحقاقات للعملية السلمية عبر التلويح بين الحين والآخر بضرب إيران.
مشهد يتكرر
إن المشهد اليوم يقف عند هذه النقطة، ففي الوقت الذي تقتضي فيه مصلحة أمريكا ترتيب الملف النووي الإيراني، في سياق السيطرة على الموقف المتفجر في سوريا (والعراق) والمهدد بتغيير مسار التاريخ عبر خلافة حقيقية على منهاج النبوة، يلوّح نتنياهو اليوم بخطر النووي الإيراني ليضغط على موضع ألمٍ أمريكي، يشغلها به عن الضغط عليه.
وهذا نهج الهروب للأمام من أية استحقاقات لعملية السلام، ولا شك أن نتنياهو يستحضر حالة البطة العرجاء في السنة الانتخابية التي تدخل فيها أمريكا في حالة قريبة من الركود السياسي، مما يصعّب على الإدارة الأمريكية فيها اتخاذ قرارات جوهرية.
وكما فشل كلينتون في ترويض نتنياهو عندما ظل الأخير عنيدا وتعامل مع أمريكا بعجرفة وتحدث خلالها عن قدرته على قهر إدارة الرئيس كلينتون، فمن الممكن أن يتكرر فشل احتواء نتنياهو.
إذ من المعلوم أن أمريكا تستوعب مشاكسات قادة الكيان اليهودي حسب فلسفة استيعاب الأب لابنه المدلل. ولكن الأب قد يصل لمرحلة التذمر من دلال ابنه، كما هو واقع أوباما اليوم، ومن قبله كلينتون في آخر أيام إدارته. ولكن ذلك التذمر يدفعه نحو التكوّر على الذات (الإحباط) لا نحو تغيير طبيعة العلاقة مع كيان يهود؛ فقد سبق أن أعرب أوباما - خلال فترة حكمه الأولى (في ربيع 2010) عن "شعوره بالإحباط بسبب تعثر جهود السلام في الشرق الأوسط"، معترفا بفشل "الضغط الذي تمارسه واشنطن".
سياسة الركض على قشاط متحرك
ليس ثمة من مؤشرات لتتغير الرؤية الليكودية ولا الأمريكية، وليس ثمة من إبداعات لأساليب جديدة لدى أي من الطرفين في هذه المواجهة، ولذلك من المتوقع أن يستمر الطرفان في لعبة الركض على قشاط متحرك دون قطع أية مسافة فعلية.
وكما حرّك نتنياهو الأجواء الشعبية عام 2010 عند اعتبار المسجد الإبراهيمي في الخليل، ضمن المناطق التراثية اليهودية، فقد تحرك زيارته المرتقبة للمسجد الإبراهيمي ردود فعل شعبية تربك المشهد السياسي، وتخرج الكيان اليهودي من دائرة الضغط السياسي. وكما تطلب الموقف المتأزم السابق تسخين الأجواء الشعبية في فلسطين من أجل الضغط على كيان يهود (أو للإطاحة بنتنياهو)، فقد تتكرر المحاولة، وخصوصا مع إثارة ملفات الفساد حوله وحول زوجته.
وكما تداعت القيادات اليهودية في أمريكا لمساندة نتنياهو في مواجهته السياسية مع كلينتون (الأبيض)، حتى وصل الأمر لفضح علاقاته العاطفية في وسائل الإعلام العالمية (مما كان وراءه لجان العمل السياسي الأمريكية الإسرائيلية "AIPAC")، فقد تتداعى من جديد لمساندة نتنياهو ضد أوباما (إفريقي الأصل!).
وهذا الموقف يكشف عن تجاذبات سياسية، لا عن اختلاف في الموقف من الأمة الإسلامية، ومن الحرب عليها، لذلك فإن تغيير معادلات هذا الاتزان يتطلب طاقة الأمة لتغيير المسارات وقلب الطاولة.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق